بكين، (صونا): تبرز الصين اليوم كأحد أبرز الشركاء الدوليين للدول الإفريقية، بالنظر إلى التوسع اللافت في مجالات تعاونها مع القارة وتعدد الأوجه التي تتخذها العلاقة، ويأتي هذا التوسع ضمن رؤية صينية شاملة تسعى لبناء شراكات طويلة الأمد تقوم على مفهوم “المصير المشترك”، وهو ما يفتح أمام الصومال فرصة استراتيجية لإعادة صياغة علاقته مع بكين بما يخدم أهدافه التنموية والوطنية.
شهدت العلاقة بين الصين وإفريقيا تطورًا نوعيًا خلال العقدين الأخيرين، حيث تجاوزت حدود الدبلوماسية التقليدية إلى تعاون موسّع يشمل البنية التحتية، والتجارة، والاستثمار، وبناء القدرات، ولم تعد الصين تركز على الموارد فقط، بل باتت تسعى إلى ما تسميه “التعاون المربح للطرفين”، وهو ما تجلى في كونها الشريك التجاري الأول لإفريقيا، وأحد أبرز المستثمرين في مشروعاتها الكبرى.
وتبرز أهمية هذا التعاون في تنفيذ مشاريع ضخمة غيّرت ملامح العديد من الدول، من موانئ حديثة وخطوط سكك حديدية إلى محطات طاقة، كما لم تغفل بكين أهمية العنصر البشري، فقدمت آلاف المنح الدراسية، وبرامج التدريب المهني، ودعمت بناء الكفاءات في مختلف القطاعات في الدول الإفريقية.

ويعد منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC) المنصة الأبرز التي تحدد مسارات وأولويات هذه العلاقة، حيث يُعقد دوريًا لوضع أهداف تعاون واضحة بين الصين والدول الإفريقية.
الصومال والصين.. علاقات تاريخية وإمكانات واعدة
يمتد تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الصومال والصين إلى بدايات استقلال البلدين، وقد حافظت الصين على دعمها ووجودها في الساحة الصومالية رغم التحديات التي واجهتها البلاد خلال فترات الحرب وعدم الاستقرار، واليوم، يمكن لهذا الإرث التاريخي أن يشكل أساسًا متينًا لانطلاقة جديدة تتصف بكونها أكثر شمولًا وفائدة للطرفين.
وقد تجلى دعم الصين للصومال في مجالات حيوية، من أبرزها:
المساعدات الإنسانية: لعبت الصين دورًا مهمًا في تقديم الدعم الإغاثي خلال الكوارث والأزمات، مما ساهم في التخفيف من الشعب الصومالي.
المنح الدراسية: أتيحت الفرصة لمئات الطلبة الصوماليين لمتابعة دراستهم في الجامعات الصينية، وهو ما يشكل ركيزة أساسية لبناء الكفاءات الوطنية.
بناء القدرات: قدمت الصين دعمًا مؤسسيًا مهمًا عبر تجهيز الوزارات الصومالية وتدريب موظفيها، مما ساهم في تحسين كفاءة الأداء الحكومي.
الانخراط الاقتصادي: رغم محدوديته خلال فترات عدم الاستقرار، إلا أن الصين أبدت اهتمامًا واضحًا بالاستثمار في الصومال، وهو ما يمكن البناء عليه مع استقرار الأوضاع نسبيًا.

وتشكل سياسة “الصين الواحدة” التي تؤيدها الصومال نقطة التقاء مهمة، تعكس الاحترام المتبادل لمفاهيم السيادة ووحدة الأراضي، وهي مفاهيم محورية في مسار بناء الدولة الصومالية.
ويمكن للصومال، وهي تخطو بثقة نحو إعادة البناء، أن تستثمر في تطوير علاقاتها مع الصين بما يخدم أجندتها الوطنية، وذلك من خلال المجالات التالية:
البنية التحتية: تحتاج الصومال إلى مشاريع ضخمة في مجالات الطرق والموانئ والطاقة. ويمكن أن يكون للصين دور محوري في تطوير ميناء مقديشو، وتأهيل شبكات الطرق، واستغلال مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح.
تنويع الاقتصاد: إلى جانب الثروة الحيوانية والزراعة، يمكن أن يفتح التعاون مع الصين مجالات للاستثمار في التصنيع الخفيف، ومعالجة الأسماك، وتوسيع صادرات الصومال إلى السوق الصينية.
نقل التكنولوجيا: تمتلك الصين خبرة متقدمة في مجالات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والتمويل الرقمي. ويمكن أن يسهم هذا التعاون في تسريع التحول الرقمي في الصومال، وتوسيع فرص التجارة الإلكترونية، وتحسين الخدمات العامة.
بناء رأس المال البشري: يمكن توسيع برامج المنح لتشمل التدريب المهني في مجالات الهندسة والطب والتخطيط العمراني، ما يعزز الكفاءات الصومالية في القطاعات الحيوية.
الأمن الغذائي والزراعة: يمكن للصين أن تسهم في تحسين الإنتاج الزراعي من خلال إدخال تقنيات الري الحديثة وزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، ما يسهم في مكافحة الفقر والبطالة في المناطق الريفية.
البيئة والتغير المناخي: مع تصاعد تأثيرات التغير المناخي على الصومال، يمكن إقامة مشاريع مشتركة في مجال إدارة الموارد الطبيعية، والطاقة النظيفة، ومكافحة التصحر.
ورغم الفوائد الكبيرة التي يمكن أن تنطوي عليها هذه الشراكة، فإن من الضروري أن تدير الصومال علاقتها مع الصين بحكمة واستقلالية، وأن تستند الشراكة المستقبلية بين البلدين إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي تضمن تحقيق المصالح الوطنية وتعظيم الفائدة العامة، وفي مقدمتها ضرورة التوافق التام بين المشاريع الممولة أو المنفذة بالتعاون مع الصين وبين الأولويات الوطنية وخطط التنمية المعتمدة، مع الحرص على أن تكون هذه المشاريع نابعة من احتياجات حقيقية وملموسة في الواقع الصومالي.
كما يجب التأكيد على الشفافية الكاملة في صياغة الاتفاقيات، ومراجعة شروط التمويل بدقة لضمان عدم تحميل الاقتصاد الوطني أعباء مستقبلية تُثقل كاهل الأجيال القادمة، مع مراعاة الاستدامة المالية والتنموية في كل مشروع يتم اعتماده.

ويُعد تعزيز المؤسسات الوطنية حجر الزاوية في هذه المعادلة، إذ إن وجود مؤسسات فاعلة وشفافة وقادرة على التفاوض والمتابعة والتقييم هو الضامن الأساسي لتحويل التعاون الدولي إلى مكاسب حقيقية على الأرض، كما أن توطين الفائدة شرط لا غنى عنه، من خلال اشتراط توظيف الكفاءات المحلية، واستخدام الموارد الوطنية، وإشراك القطاع الخاص الصومالي، بما ينعكس مباشرة على سوق العمل والتنمية الاقتصادية.
وأخيرًا، يجب أن تراعي السياسة الخارجية الصومالية مبدأ تنويع الشراكات، بحيث لا تنحصر العلاقة بالصين وحدها، بل تكون جزءًا من شبكة متوازنة من العلاقات الإقليمية والدولية، تتيح للبلاد الاستفادة من تنوع الخبرات والتجارب، وتعزز مكانتها في النظام الدولي دون ارتهان لطرف بعينه.
في المحصلة، فإن مسار انخراط الصين في إفريقيا يشكل فرصة نادرة أمام الصومال لإعادة التموضع اقتصاديًا ودبلوماسيًا، وإذا ما استطاعت مقديشو أن توظف تجربتها التاريخية مع بكين ضمن رؤية وطنية طموحة، فإن شراكة قوية ومستدامة قد تشكل رافعة حقيقية نحو مستقبل مزدهر، يتجاوز التحديات نحو آفاق أرحب من النمو والاستقرار.