التطورات المتلاحقة في الساحة السودانية تشير إلى أن العمليات العسكرية ستتجاوز مدينة “الفاشر”، فإذا كانت رؤية القيادة السودانية ومكونها الشعبي منذ عهد الإنقاذ 1989 حتى 15 إبريل 2023 مقتصرة على أن تحديات الإقليم الغربي من البلاد وتعقيداته الداخلية أكبر من قدرة القيادة على إحتوائها ومعالجتها، فإن الإنقسامات الحادة التي فرضتها هذه الحرب على كينونة الدولة السودانية جاءت كفرصة تاريخية في ظرف إستثنائي لقيادة حالفها الحظ أن تكون الرائدة لإسترداد الدولة، وإعادة بناءها من الداخل، فلا سودان بعد اليوم بدون إقليم دارفور كاملاً ومحرراً من رجس الجنجويد.
تشير العمليات العسكرية الأخيرة التي يخوضها الجيش السوداني بتقدم وعلى كافة المحاور إلى ثلاثة نقاط رئيسية نجحت الخرطوم بإرسالها إلى المجتمع الدولي، الذي وإن كان مُدركاً لحقيقة الحرب السودانية، إلا إنه لم يعد قادراً على إطالة أمدها وتحمل تبعاتها، التي كان يُعتقد بإنها ستكون مقتصرة على الداخل السوداني، والذي يبدو أن الأطراف الدولية توقفت عن قراءته بعد نجاحها في إنفصال جنوبه 2011، وكأن السودان في مخيلة العقلية الغربية وحلفاءها لم تعد له قيادة قادرة على الرفض والتخطيط والمواجهة إن لزم الأمر، وهذا ما لم تدرجه تلك الأطراف في إعتباراتها وحساباتها الأمنية والإستخباراتية وهي تغض الطرف عن مليشيات متعددة الأعراق والجنسيات والولاءات حظيت برعاية ودعم لم تشهد إفريقيا له مثيل حتى في تاريخها الإستعماري.
نجحت القيادة السودانية كما أشرنا أنفاً في إرسال ثلاثة رسائل إلى المجتمع الدولي ومؤسساته:
الحرب التي تخوضها مليشيا الدعم السريع ضد القوات المسلحة السودانية هي حرب لإستئصال الدولة السودانية، ومواردها، ومؤسساتها الوطنية، وتجريف شعبها بكافة مكوناته، وبعيدة كل البعد عن تحقيق إرادة وطنية، وعدالة إجتماعية، وديموقراطية يتساوى أمامها الحاكم والمحكوم، وبالتالي مواجهتها والقضاء على داعميها “واجب مقدس” لا مناص عنه.
توافق كافة المكونات العسكرية السودانية وتوابعها الأمنية والمدنية على أن مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات ما هي إلا أداة تنفيذية لإعادة رسم الخارطة الإقليمية وفقاً لرؤية خاصة متضادة مع مستقبل السودان ومصالح منطقة القرن الإفريقي قاطبة.
إضطرار كافة الأطراف الدولية الفاعلة في الساحة السودانية بإعادة حساباتها السياسية والأمنية من الأزمة السودانية، بعد إدراكها الكامل بإستحالة تحقيق مكاسبها الخاصة من خلال جماعات خارجة عن القانون مهما تضاعف الدعم اللوجستي لها وتعددت أطرافه.
تعزيزاً للعمليات العسكرية المتقدمة للجيش السوداني وإستغلالاً للتدهور الأمني والإستخباراتي واللوجستي الذي يحيط بمليشيا الدعم السريع، يقترح على القيادة السودانية العمل على الإستفادة القصوى من “إستراتيجية التقارب والتعاون” التي طرحها رئيس إفريقيا الوسطى “فوستن توديرا” مؤخراً على السودان وبإيعاز “روسي” والعمل على الأتي:
نظراُ لحجم نفوذ الخرطوم في التأثير على الجماعات المسلحة “المعارضة” لإدارة الرئيس “توديرا” يمكن للقيادة السودانية وضع أسس للمصالحة الوطنية بين “بانغي” وجماعة “CPC” المسلحة بقيادة “علي داراس”، و جماعة “FPRC” بقيادة “نور الدين أدم”، الذي يمارس تأثيره ونفوذه على “داراس”، بإعتبار أن تلك القضية من أهم القضايا المؤرقة لإفريقيا الوسطى، وقناعة الأخيرة بقدرة السودان على حل تلك المعضلة بدليل إرساء “فوستن توديرا” منذ سبتمبر الماضي إستراتيجية “التقارب” مع السودان وكلف أجهزته الأمنية بالتعاون والتنسيق الكامل مع جهاز المخابرات السوداني، وهذا برأيي يعود إلى رؤية بانغي لمستقبل العلاقات الثنائية مع السودان الجديد، وإذا نجحت الخرطوم في ذلك فهي ستحقق هدفين رئيسين:
الأول: تعزيز حضورها في المشهد الإقليمي “غرباً” مما سيؤهلها مستقبلاً إلى تطوير أليات حضورها “السياسي” و”الأمني” و”الإستخباراتي” و”الثقافي” في منطقة وسط وغرب إفريقيا الذي تعتمد عليه مليشيا الدعم السريع لتحقيق مشروعها العابر للحدود والمقوض للدولة الوطنية في إفريقيا.
الثاني: تقارب الرؤى والتوجهات مع روسيا، مما سيضاعف إعتماد “موسكو” على “الخرطوم” في بعض الملفات الإفريقية مستقبلاً، خاصة مع تنامي النفوذ الروسي في القارة الإفريقية، وهذا ما سيضمن للسودان موقف “روسي” دائم وداعم لها في مجلس الأمن على المدى المتوسط.
التقارب مع الشخصيات الروسية “الإستراتيجية” العاملة في إفريقيا، مثل “Dimitri Sytyi” الذي تجاوز دوره دور السفير الروسي في بانغي، بدليل نجاح الأول ومن خلال المركز الثقافي الروسي الذي يرأسه في توقيع إتفاقيات “هامة” مع إفريقيا الوسطى، وتكمن أهمية ديمتري في قدرته على أن ينشئ شبكة علاقات إيجابية مع أهم القيادات الأمنية في بانغي الداعمة للجيش السوداني والتي برزت بعد “الفيتو الروسي” الأخير في مجلس الأمن الذي تنفست الخرطوم بعده الصعداء وحال دون قرار نشر قوات أممية في السودان، ومن أهم تلك الشخصيات النائب الأول للرئيس “Évariste Ngamana“، ورئيس المخابرات “Henri Wanzet“، ورئيس الشرطة “Bienvenu Zokoué“، ووزير الدفاع “Claude Bireau“، (أرى أن زيارة وزير الدفاع “Claude” إلى بورتسودان ستكون قريبة وبإشراف “روسي”، وإذا تحققت تلك الزيارة فهذا يعني أن هناك أوراق كثيرة رابحة وقعت في يد القيادة السودانية لرسم ما يتوافق معها في جوارها الإقليمي”الغربي” الممتد من تشاد إلى منطقة الساحل الإفريقي برمته المتطلع لمستقبل إفريقي جديد مع روسيا).
تستطيع الخرطوم وبأدنى جهد إستمالة كبار القيادات الأمنية في بانغي وخارجها، فالمؤسسة العسكرية في إفريقيا الوسطى لمن لا يعرفها تضم في بعض صفوفها مجموعة من القيادات الأمنية والإستخباراتية التي تدين بالولاء للدولة السودانية، لدور الخرطوم الدبلوماسي في رعاية مفاوضات السلام في بانغي (هناك كوادر أمنية غادرت المؤسسة العسكرية وإتخذت من الخرطوم وشرق السودان مقراً لها يمكن الإستعانة بهم)، ناهيك عن دور السودان التاريخي في تطوير أليات العملية التعليمية في المؤسسات الأكاديمية، وإستقطاب الطلبة الجامعيين من كافة مناطق إفريقيا الوسطى للجامعات السودانية والذين أصبحوا اليوم يقودون مشروع ما يطلق عليه باللغة الفرنسية “Développement institutionnel dans les ministères souverains”، وتعني باللغة العربية “التطوير المؤسسي في الوزارات السيادية”، وهم من يوكل إليهم العديد من الملفات وأهمها ملف العلاقات الإفريقية -الإفريقية.
العمل على كسب القيادات وأتباعهم في منطقة جنوب شرق إفريقيا الوسطى “Haut Mbomou” والتي كانت تربطها بالسودان علاقات وثيقة تعود لحقبة ما قبل تسعينيات القرن الماضي، وهنا ستحقق الخرطوم هدفين رئيسيين:
الأول: حل الخلاف العميق بين مجموعة “أزاندي” أو ما تعرف بالفرنسية “Azandé Ani Kpi Gbé ” القاطنة في تلك المنطقة وإدارة الرئيس “توديرا”، بسبب إصرار مقاتلي “أزاندي” على عودة أبناءهم الذين يخدمون في القوات المسلحة لأفريقيا الوسطى، بسبب تقاعس إدارة “توديرا” عن الدفاع عنهم بعد الإعتداء الروسي عليهم أثناء التدريب، والذي أفضى إلى موت أحدهم.
الثاني: قدرة الخرطوم على تهدئة موجة الإتهامات المتسارعة التي أطلقتها “أزاندي” ضد روسيا بأنها تستغل التحالفات العرقية لتحقيق مصالحها، وحتى تحقق السودان نتائج سريعة حول هذا الملف يمكن للخرطوم التنسيق والتعاون مع “Benoît Narcisse” المدعي العام في إفريقيا الوسطى بإعتباره جزءاً من مجتمع “أزاندي”، ومتصالح مع الحضور الروسي في بلاده، وهذا الحراك السوداني السياسي في تلك المنطقة لو تحقق أرى أنه سيساهم في الحفاظ على الفيتو الروسي الداعم للسودان في مجلس الأمن، وبالتالي سيلقي بظلاله “إيجاباً” على مستقبل العلاقات السودانية الروسية على المدى القريب إلى المتوسط وهذا ما تحتاجه السودان في المرحلة القادمة. (رغم تصاعد مستوى الحضور الدولي “الروسي، والأمريكي، والأوروبي” في تلك المنطقة الإستراتيجية، وتواجد مليشيا الدعم السريع في بعض مدنها، إلا أن “AAKG” قادرة على إعادة تنظيم صفوفها تماماً كقدرتها على الحشد “القبلي” لمواجهة التحديات، وعليه يمكن إختيار فريق “سوداني” خاص يقوده أحد الكوادر السودانية السابقة المختصة بمنطقة وسط وغرب إفريقيا والتي تحظى بثقة القيادة السودانية مثل ” عطا المنان بخيت” أو ” يحيي عبد الجليل”، إنجاحاً لإستراتيجية التقارب والتعاون التي أطلقتها بانغي تجاه الخرطوم مما سيساهم في إضعاف نشاط مليشيا الدعم السريع والقضاء عليها تدريجياً، وتقريب وجهات النظر بين الخرطوم وبانغي، وهو ذاته ما سيدفع أنجامينا “ولا أقول ما سيقنع أنجامينا” لاحقاً على إعادة ضبط حساباتها مع السودان الجديد، بعد فشل الرهان على مليشيا الدعم السريع والذي تدرك الخرطوم قطعاً بأنه لم يكن رهان أنجامينا ولا يمكن أن يكون رهانها حتى وإن إنتصر “لا سمح الله”.
تعزيزاً لمستقبل الدبلوماسية السودانية على المدى الطويل يجب البدء بتنفيذ برامج خاصة للدبلوماسية الشعبية مع كافة دول الوسط والغرب الإفريقي، ولا تحتاج الخرطوم لوضع أسس لتلك الدبلوماسية وذلك بسبب القبول الشعبي الذي تحظى به الدولة السودانية منذ الإستقلال 1956 من كافة المكونات الإفريقية خاصة في “غرب إفريقيا”، وأرى أن كل الذي تحتاجه الدبلوماسية السودانية الأن في إفريقيا قاطبة هو وضع أليات للتنفيذ وتطوير إستراتيجيات داعمة للحضور السوداني المستقبلي “إفريقياً”.
هناك أمران يجب أن تحذر منهما القيادة السودانية مستقبلاً خاصة مع إستمرار تقدم العمليات العسكرية للجيش السوداني والمتجهة بثبات إلى ما بعد “الفاشر”:
الأول: أن تقوم مليشيا الدعم السريع بالإستعانة بمجموعة من الضباط السوريين الذي وصلوا إلى بنغازي بعد سقوط نظام الرئيس السوري “بشار الأسد”، ولا أعتقد أن عين الخرطوم كانت غافلة عندما شهدت الأوساط الأمنية والإستخباراتية عام 2020 تدفق ما أطلق عليه بالفرنسية “Rapports syriens d’Afrique” وتعني باللغة العربية “تقارير سورية من إفريقيا” والتي أكدت التعاون والتنسيق بين “الأسد” و”خليفة حفتر”، وأسفرت عن توقيع الإتفاقية السرية لتدريب طياري الجيش الوطني الليبي في سوريا، ناهيك عن الجسر الجوي بين دمشق وبنغازي لنقل المرتزقة والتهريب بين شرق ليبيا وسوريا.
الثاني: إقدام مليشيات “صبوح السلام” الليبية والتي تنشط في جنوب شرق ليبيا والموالية لمليشيا الدعم السريع على تشكيل كيان “عسكري” جديد على الحدود السودانية التشادية المصرية يعمل على تطوير خطط المواجهة المحتملة مع الجيش السوداني من جانب، وتعزيز كافة خطوط الإمداد لدعم عمليات مليشيا الدعم السريع نظراً لسيطرتها على عدد كبير من الطرق التي يستخدمها المهاجرون والحركات الخارجة عن القانون .
أرى أن الخرطوم أمام فرصة تاريخية لإعادة فرض نفسها “إقليمياً” وبإستراتيجية جديدة تتوافق مع ما وصلت إليه القيادة السودانية من مكانة “سياسية” متقدمة، بعد نجاح قواتها المسلحة في الحفاظ على سير عمل كافة المؤسسات الوطنية مع المجتمع الدولي بإعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للدولة السودانية، وإخضاع مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات للتراجع والإنسحاب في كثير من المواقع الحيوية، بعد نجاح حملة حصارها “سياسياً” و “إعلامياً” و”إلكترونياً”.
بقلم د.أمينة العريمي – باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي