بكين 19 ذو القعدة 1446 هـ الموافق17 مايو 2025 م (صونا) – في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، تبرز الصين اليوم كقوة تكنولوجية صاعدة تعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي، مدفوعة برؤية استراتيجية تتجاوز رد الفعل تجاه الغرب إلى بناء منظومة صناعية متكاملة تجعل من التفوق الأمريكي مسألة زمنية قابلة للتجاوز.
لم تعد بكين تكتفي بلقب “مصنع العالم”، بل تسعى لأن تكون مهندسة الثورة الصناعية الجديدة، مرتكزة على الروبوتات والذكاء الاصطناعي والتصنيع الذكي، لتقود المرحلة المقبلة من النمو العالمي.
باتت الصين اليوم، أكبر منتج ومستخدم للروبوتات الصناعية في العالم، بحسب بيانات الاتحاد الدولي للروبوتات (IFR)، حيث تم تركيب أكثر من 276,000 روبوت في عام 2023، وهو ما يمثل 51% من الطلب العالمي. وبلغ إجمالي عدد الروبوتات العاملة في المصانع الصينية نحو 1.75 مليون وحدة، مما يجعلها الدولة الأولى عالميًا من حيث مخزون الروبوتات الصناعية.
ويُعد هذا النمو انعكاسًا لاستراتيجية “صُنع في الصين 2025″، التي تهدف إلى ترسيخ الاستقلال الصناعي وتقليص الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، عبر تعزيز الابتكار المحلي وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات المتقدمة، مثل الروبوتات، وأشباه الموصلات، والطاقة المتجددة.
الروبوتات: سلاح الصين الجديد في معركة التفوق
في حين لا تزال الولايات المتحدة تسيطر على التكنولوجيا المتطورة والبرمجيات المعقدة، تراهن الصين على أمرين: الأول هو القدرة على الإنتاج الضخم وخفض التكاليف، والثاني هو دمج الروبوتات في مختلف مفاصل الاقتصاد بسرعة أكبر من الغرب.
فبفضل بنيتها التحتية الصناعية الهائلة، ومرونة مؤسساتها، والدعم الحكومي السخي، نجحت الصين في إدخال الروبوتات ليس فقط في المصانع الكبرى، بل أيضًا في الشركات الصغيرة والمتوسطة، وقطاعات مثل الرعاية الصحية والتعليم، ما يوسع من نطاق تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي.
وتُظهر المؤشرات أن الصين لا تسير فقط نحو اللحاق بالولايات المتحدة، بل تسعى لتجاوزها في بعض القطاعات، فعدد الشركات الناشئة في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي في الصين يتزايد بوتيرة مذهلة، كما أن بعض الشركات مثل “UBTech” و“Hikvision Robotics” بدأت تصدر تقنياتها إلى أسواق أوروبا وأفريقيا، ما يمنحها بعدًا جيوسياسيًا أيضًا.
ولعل أبرز ما يميز النموذج الصيني هو الجمع بين الرؤية الاستراتيجية الطويلة الأمد، والتنفيذ السريع القائم على التجريب والتوسع؛ ففي الوقت الذي تخضع فيه الشركات الأمريكية لمعادلات السوق والمساهمين، تتحرك الشركات الصينية ضمن مظلة تنموية شاملة تقودها الدولة وتؤمن لها التمويل والتوجيه.
ورغم استثماراتها الكبيرة، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في موقع رد الفعل. فقد دفعت المخاوف من التقدم الصيني إلى تمرير قانون “الرقائق والعلوم” (CHIPS and Science Act)، وإعادة ضخ الأموال في الصناعات المحلية، وفرض قيود على تصدير التكنولوجيا للصين، لا سيما في مجالات مثل أشباه الموصلات وأنظمة التحكم الدقيقة.
إلا أن هذه الإجراءات قد لا تكون كافية، إذ تواصل الصين تطوير تقنياتها الذاتية، وبناء سلسلة إمداد مكتفية ذاتيًا، وتعميق تعاونها مع الدول النامية، في وقت تتصاعد فيه التوترات السياسية التي تحد من قدرة واشنطن على ضبط مسارات التكنولوجيا عالميًا.
نظام عالمي جديد تقوده الروبوتات؟
مع استمرار الصين في دفع حدود الابتكار، يبدو أن العالم مقبل على تحول بنيوي تقوده الروبوتات الذكية والأنظمة المؤتمتة، وإذا ما واصلت بكين هذا النسق التصاعدي، فإنها ستكون في موقع يؤهلها لفرض نموذجها الصناعي على المستوى الدولي، بل وربما صياغة قواعد اقتصادية جديدة، لا تتمحور حول واشنطن كما جرت العادة منذ نهاية الحرب الباردة.
وللمرة الأولى منذ عقود، تبدو موازين القوى التكنولوجية والاقتصادية في حالة ديناميكية، تُتيح لدولة غير غربية – كالصين – أن تضع تعريفًا جديدًا للتقدم الصناعي، وأن تقود العالم نحو مستقبل تصنعه روبوتاتها الذكية.