مقديشو 18 جمادى الأولى 1447 هـ الموافق 09 نوفمبر 2025 م (صونا)- بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار مؤسسات الدولة، تبدو الصومال اليوم كمن تستعيد نبضها الاقتصادي من جديد.
في مدنٍ كانت إلى وقت قريب تُعرف بخرائبها، تتعالى أصوات الماكينات، وتلوح في الأفق مبانٍ شاهقة، وأسواقٌ تعجُّ بالحركة والتجارة. إنها ملامح نهضة وطنية صامتة، يقودها الصوماليون أنفسهم بإصرارٍ على تجاوز الماضي وبناء المستقبل.
في قلب هذه الحركة الجديدة، تبرز الصناعة كرمزٍ للتعافي. فقد شهدت العاصمة مقديشو مؤخرًا افتتاح مصنع بنادر للصلب المصبوب، وهو من أوائل المشاريع الصناعية الحديثة التي تعكس تحوّل الاقتصاد الصومالي من الاستهلاك إلى الإنتاج. المصنع يُعيد تدوير الحديد المحلي ليُستخدم في تشييد المنازل والمنشآت، مستجيبًا لحاجة البلاد المتزايدة إلى مواد البناء في ظل التوسع العمراني الملحوظ.
وخلال زيارته للمصنع، عبّر فخامة الرئيس الدكتور حسن شيخ محمود عن تفاؤله بمستقبل الاقتصاد الصومالي، مؤكدًا أن “مثل هذه المشاريع تمثل بداية التحول الحقيقي نحو الاكتفاء الذاتي”. وأضاف: “أهنئ رواد الأعمال الشباب الذين بادروا بالاستثمار في بلدهم، والذين وفروا فرص عمل لأكثر من 400 شخص. نريد من المغتربين أن يعودوا ليستثمروا في وطنهم، حتى نستعيد ما فقدناه في الثلاثين عامًا الماضية.”
لكن كلمات الرئيس لم تكن مجرّد إشادة بمشروعٍ واحد، بل رسالة إلى جيلٍ جديد من الصوماليين: أن التنمية لا تأتي بالانتظار، بل بالفعل. فالحكومة، كما يقول فخامته، تشجع على الاستثمار المحلي، وتعمل على تهيئة بيئة قانونية وأمنية جاذبة للمستثمرين، في وقتٍ تستعد فيه البلاد لدخول مرحلة جديدة من النمو مع استكشاف النفط والغاز، وانضمامها رسميًا إلى المجموعة الاقتصادية لدول شرق أفريقيا (EAC)، ما يفتح أمامها آفاقًا واسعة للتجارة والتكامل الإقليمي.
ويجمع المراقبون على أن هذا التحول الاقتصادي لم يكن ممكنًا لولا تحسن الأوضاع الأمنية وعودة الثقة بين الدولة والمواطنين. فالعاصمة مقديشو التي عانت ويلات الحرب، أصبحت اليوم ورشة عمل مفتوحة: مشاريع إسكان، وطرق حديثة، وجسور، ومؤسسات تعليمية وصحية قيد الإنشاء. كما تشهد المدن الكبرى مثل كيسمايو وهرجيسا وبيدوا وغالكعيو نشاطًا تجاريًا متزايدًا، ما يعكس روح التنافس الإيجابي بين الأقاليم الإدارية نحو التنمية.
إن المشهد العام يوحي بأن الصومال بدأت تدخل مرحلة “الاقتصاد المنتج”، حيث لا تقتصر التنمية على المساعدات الخارجية، بل تنبع من الداخل عبر المبادرات الوطنية وروح الريادة لدى الشباب. ولعل مصنع بنادر للصلب ليس سوى خطوة رمزية في طريقٍ طويل، لكنّها خطوة تؤكد أن “المستقبل يُصنع في الداخل لا يُستورد من الخارج”.
ويختم الرئيس حسن شيخ محمود رؤيته برسالة ذات بُعد إنساني واقتصادي في آنٍ واحد: “نريد أن نُنتج كل ما نستهلكه، وأن نعتمد على صناعتنا الوطنية بدلاً من السلع المستوردة. فحين نصنع بأيدينا ما نحتاج إليه، نكون قد وضعنا أساس الكرامة الوطنية والاستقلال الاقتصادي.”
ومع تنامي هذه المشاريع وتزايد رغبة الصوماليين في الاستثمار، يتجه الوطن بخطواتٍ واثقة نحو مرحلة جديدة، عنوانها الإنتاج بدل الاستهلاك، والبناء بدل الانتظار. فالصومال التي أُنهكت بالحروب تعود اليوم لتقف على قدميها، أقوى وأكثر تصميمًا على أن تكون دولة تصنع غذاءها وسلاحها ومواد بنائها بيد أبنائها، لا بفضل غيرها.

