مقديشو 07 جمادى الأولى 1447 هـ الموافق 29 أكتوبر 2025 م (صونا) – حين تتحدث الذاكرة السياسية عن التحولات الكبرى في القرن الإفريقي، يبرز اسم فخامة رئيس جمهورية جيبوتي الشقيقة، إسماعيل عمر غيلي، كأحد أبرز القادة الذين جمعوا بين الرؤية والضمير.
ففي مطلع الألفية الجديدة، وقف مخاطبًا أبناء الصومال بكلمات تفيض بالصدق والإنسانية، قائلاً:”أطلب منكم الرحمة، أن ترحموني، أن تدعموني، فأنا قادر على إعادة بناء الصومال اليوم، وأطلب منكم أن تعملوا معي في ذلك.”
كانت تلك العبارة أكثر من نداء سياسي؛ كانت تعبيرًا عن عهدٍ أخويٍّ صادق بين شعبين جمعتهما وحدة الدم والمصير، وانطلقت منها شرارة ميلاد الجمهورية الصومالية الثالثة بعد سنواتٍ من الانهيار والشتات.
عرتا.. حيث اجتمع الصوماليون على كلمة سواء
في الثاني من مايو عام 2000، شهدت مدينة عرتا الجيبوتية انعقاد مؤتمر وطني جامع شارك فيه نحو أربعة آلاف صومالي من مختلف المكونات السياسية والاجتماعية والفكرية.
لقد تحولت المدينة الصغيرة إلى ساحة حوار وطني مفتوحة، احتضنتها جيبوتي حكومةً وشعبًا بكل ما تملك من إمكانات. فقد استقبلت الأسر الجيبوتية الوفود الصومالية في منازلها طيلة أربعة أشهر، وخصّصت الحكومة كل طاقتها لإنجاح اللقاء، لتغدو جيبوتي — بحق — الوطن الثاني للصوماليين في زمن فقدوا فيه معنى الوطن.
وقال الرئيس غيلي آنذاك في عبارة لا تزال تُستشهد بها: “جيبوتي لا تستضيف مؤتمراً سياسياً، بل تفتح قلبها لإخوتها الصوماليين حباً وواجباً؛ فسلام الصومال هو سلام جيبوتي والمنطقة كلها.”
من عرتا إلى ميلاد مؤسسات الدولة
خرج مؤتمر عرتا بنتائج ملموسة غيّرت وجه المرحلة؛ إذ تم تأسيس البرلمان الوطني الانتقالي المكوّن من 225 عضواً، خطوة شكلت بداية عهدٍ جديد من التمثيل والمشاركة.
كما أُقِرّ الميثاق الوطني الانتقالي، الذي حدّد مسارًا ثلاثي السنوات لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة عبدي قاسم صلاد حسن، أول رئيس شرعي بعد عقدٍ من الفراغ السياسي.
قيادة تنبض بالمسؤولية والوفاء
لم يتعامل الرئيس غيلي مع الصومال بوصفه جارًا فحسب، بل كـ شقيقٍ جُرح فآلمه الجرح. كان يؤمن أن استقرار الصومال هو استقرار جيبوتي والمنطقة كلها، وأن الروابط التي تجمع الشعبين أعمق من الجغرافيا وأقدم من الحدود.
ولذلك، كما قال فخامة رئيس الجمهورية الدكتور حسن شيخ محمود لاحقًا: “ما يربط بين جيبوتي والصومال هو ما لا يمحوه ماء ولا تقطعه آلة.”

امتداد الدعم إلى الحاضر
لم يكن مؤتمر عرتا خاتمة الدعم الجيبوتي، بل بدايته. فقد تواصلت جهود فخامة الرئيس غيلي في تعزيز الهوية الثقافية الصومالية، ورعاية مشاريع التعليم واللغة، ومنها الأكاديمية الإقليمية للغة الصومالية التي اتخذت من مقديشو مقرًا لها.
كما تواصل جيبوتي دورها اليوم عبر كتيبة “هيل” الجيبوتية ضمن بعثة الاتحاد الإفريقي، في التزام دائم بحفظ السلام واستقرار الدولة الصومالية.
خاتمة الوفاء والذاكرة
لقد استطاع الرئيس إسماعيل عمر غيلي أن يترك بصمة أخلاقية وسياسية نادرة في تاريخ القرن الإفريقي.
لم يكن مبادرًا فحسب، بل صاحب رؤية إنسانية أعادت الثقة إلى أمةٍ كانت تبحث عن ذاتها.
وكلماته التي قالها ذات يوم: “أطلب منكم أن تعملوا معي في إعادة بناء الصومال”، لم تكن رجاءً عابرًا، بل وعدًا صادقًا تحقّق بجهده، وتحول إلى واقعٍ حيٍّ يشهد عليه التاريخ.
