مقديشو 02 صفر 1447 هـ الموافق 27 يوليو 2025 م (صونا)- تُعد الأزمات المناخية واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الدول النامية، خصوصًا في البيئات الريفية الهشّة التي تعتمد على الأمطار كمصدر وحيد للحياة والمعيشة. وفي هذا السياق، تتصدر أزمة الجفاف في إقليم “أودل” واجهة الكوارث الإنسانية في الصومال، لتكشف مرة أخرى عن الحاجة الماسّة إلى استراتيجيات وطنية مستدامة في التعامل مع الكوارث الطبيعية. لا تقف المأساة عند حدود نقص المياه والغذاء، بل تمتد إلى تهديدٍ وجودي لصمود الدولة والمجتمع، في مواجهة تكرار الظواهر المناخية القاسية.
أولًا: ملامح المأساة الإنسانية في أودل
يعيش إقليم أودل، شمال غرب البلاد، واحدة من أشد الأزمات المناخية التي عرفها خلال العقود الأخيرة. فالأمطار الموسمية غابت تمامًا، والآبار نضبت، والمواشي – عماد الحياة الاقتصادية – نفقت بأعداد كبيرة، بينما تلاشى الإنتاج الزراعي بالكامل، مما اضطر آلاف الأسر إلى ترك قراها قسرًا، واللجوء إلى أطراف المدن أو مناطق مجاورة بحثًا عن الحياة.
في مناطق مثل “زيلع” و”لغهيى”، والمناطق الرعوية المحيطة، تبدو المشاهد أقرب إلى الكارثة: لا ماء، ولا غذاء، ولا دواء. الأطفال يعانون من سوء التغذية، والنساء الحوامل وكبار السن يواجهون خطر الموت في صمت، وسط تفشي الأمراض المرتبطة بالجفاف، كالإسهال والكوليرا. التقارير الصادرة عن منظمات محلية وإنسانية تؤكد فداحة الوضع، وتنقل صورًا موجعة من مراكز الإيواء المؤقتة.
تشير الأرقام الرسمية إلى أن أكثر من 65,000 شخص بحاجة ماسة إلى مياه شرب نظيفة، وغذاء يومي، ورعاية طبية عاجلة. الكارثة لم تعد قابلة للاحتواء أو التأجيل، بل تجاوزت مرحلة التحذير ودخلت في طور الإنذار الحاد.
الأزمة طالت الجميع. الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، والأسواق خلت من الضروريات، في حين لم يعد بمقدور الأسر الفقيرة تأمين لقمة العيش. ومع انهيار سبل العيش، فقدت المجتمعات الريفية توازنها، وبدأت موجات الهجرة نحو المدن الساحلية، ما ينذر بأزمة سكانية جديدة تتفاقم يومًا بعد آخر.
ما يجري في “أودل” ليس أزمة موسمية عابرة، بل مرآة حقيقية لهشاشة البيئات الريفية أمام التغير المناخي، ورسالة عاجلة بضرورة التخطيط الوطني لمواجهة هذه التحديات المتكررة.
ثانيًا: الجذور العميقة لتكرار الكوارث المناخية في الصومال
رغم أن الصومال من أقل الدول تسببًا في التغير المناخي على مستوى العالم، إلا أنها من بين أكثرها تضررًا. مفارقة مؤلمة تكشف حجم الظلم المناخي العالمي، وتُبرز هشاشة المجتمعات الريفية في مواجهة واقع مناخي متغير.
يعتمد سكان الريف بشكل شبه كامل، على الزراعة المطرية، والرعي التقليدي، دون وسائل حديثة أو تقنيات مقاومة للجفاف. ومع كل موسم شحيح، يتوقف الإنتاج، وتنهار دورة الحياة، وتُترك المجتمعات لمصيرها في مواجهة الطبيعة.
وتزداد الأمور تعقيدًا بسبب ضعف البنية التحتية في الأقاليم النائية، حيث لا توجد شبكات مياه أو صرف صحي، ولا طرق معبّدة، ولا مراكز صحية قادرة على التعامل مع الأزمات. كما أن غياب الوعي البيئي، ومحدودية التعليم، يسهم في اتساع دائرة الضعف.
النزوح المزمن نتيجة الجفاف والصراعات يفرض ضغوطًا هائلة على المناطق المضيفة، التي تعاني أصلاً من شُح الموارد. ومع تصاعد التوترات حول المياه والمراعي، يصبح خطر النزاع الأهلي حاضراً في كل أزمة.
غياب منظومة فعالة للإنذار المبكر، وضعف التخطيط البيئي، وتدني الميزانيات المخصصة للتأهب، كلها عوامل تزيد من تعقيد الأزمة. في الصومال، لا تأتي الكارثة من المناخ فقط، بل من الإهمال المؤسسي المزمن.
ثالثًا: حكومة المصلحة الوطنية – استجابة مسؤولة وموقف وطني
أمام هول الكارثة، تبنّت حكومة المصلحة الوطنية بقيادة رئيس الوزراء دولة حمزة عبدي بري موقفًا مسؤولًا يليق بحجم التحدي، وأعلنت اعتبار أزمة “أودل ” حالة طوارئ وطنية”، تستوجب تعبئة شاملة لكل أجهزة الدولة.
في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 17 يوليو 2025، قُدِّم تقرير مشترك من وزارة الداخلية والشؤون الفيدرالية والمصالحة، وهيئة إدارة الكوارث الوطنية (صـودما)، تضمن مشاهد مروعة من مناطق زيلع ولغهيى، حيث فقد السكان مواشيهم وأراضيهم، وانهار الأمن الغذائي بالكامل.
وجّه رئيس الوزراء بسرعة تنفيذ خطة طوارئ تشمل الإغاثة، والرعاية الصحية، وتوفير المياه، بالتنسيق مع الوزارات المعنية. كما دعا الشعب الصومالي في الداخل والشتات، والقطاع الخاص، والمؤسسات الخيرية، لإطلاق حملة وطنية بعنوان: “أنقذوا أودل”.
وتم تشكيل غرفة عمليات مشتركة بين الحكومة الفيدرالية والإدارات المحلية، مع اجتماعات دورية لمتابعة التنفيذ، وضمان التنسيق الميداني. رئيس الوزراء قالها بوضوح: ” كل ساعة تأخير تعني أرواحًا تُفقد وخيامًا جديدة تُنصب. ولن نسمح بذلك ما دمنا في موقع المسؤولية”.
تصريح أعاد الأمل، وأرسل رسالة بأن الدولة حاضرة وجاهزة، ليس فقط في الأوقات الهادئة، بل في ذروة المحن.
رابعًا: من الإغاثة إلى البناء – خارطة طريق لمستقبل مستدام
أزمة “أودل” بيّنت بشكل جلي أن العمل الإغاثي وحده غير كافٍ، وأنه لا بد من التحوّل إلى استراتيجيات تنموية تبني قدرة المجتمع على الصمود في وجه التغير المناخي.
أولًا، يجب إنشاء صندوق وطني لإدارة الكوارث، بتمويل من الحكومة، والقطاع الخاص، والداعمين الدوليين، ليكون أداة مرنة وسريعة في الاستجابة، بعيدًا عن البيروقراطية.
ثانيًا، إدخال الزراعة الذكية مناخيًا، من خلال تقنيات الري الحديثة، وتجميع المياه، وتوفير بذور مقاومة للجفاف، مع تدريب الفلاحين على سبل الإنتاج المستدام.
ثالثًا، بناء شبكات إنذار مبكر، تعتمد على الإذاعات المحلية والهواتف المحمولة ومراكز الأرصاد، وتمكين المجتمعات من فهم، وتحليل المؤشرات المناخية، لاتخاذ قرارات مبكرة.
رابعًا، ربط إدارة الكوارث بجميع الوزارات، بحيث تكون جزءًا من كل السياسات العامة، وليس مجرد ملف ثانوي. ويكون لصـودما دور تنسيقي واضح ومؤثر.
خامسًا، ضمان الشفافية ومشاركة المجتمع المدني، من خلال نشر البيانات بانتظام، وتفعيل آليات الشكاوى، لضمان عدالة توزيع المساعدات وبناء الثقة بين المواطن والدولة.
خاتمة: من أودل إلى كل الأقاليم – الصمود يبدأ من الآن
جفاف “أودل” لم يكن مجرد مأساة طبيعية، بل محطة فارقة في تاريخ الاستجابة الوطنية للكوارث. حكومة المصلحة الوطنية أثبتت أن الدولة قادرة على المبادرة، والتخطيط، والتحرك الفعّال، إذا ما توفرت الإرادة.
ما حدث في 17 يوليو يجب أن يتحول إلى نموذج يُعمّم على باقي الأقاليم. لأن الكارثة القادمة – سواء جفاف أو فيضان أو مرض – ليست سوى مسألة وقت، ولا خيار أمام الدولة والمجتمع إلا الاستعداد.
الصمود لا يُصنع وقت الأزمات فقط، بل يُبنى كل يوم، حين نُخطط بذكاء، ونستثمر في الإنسان، ونزرع الثقة بين المواطن ودولته.
بقلم: صالح محمد
إعلامي وناشط إنساني